الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة قصيد: بــــحـــــــر فـــــــوق رأســـــي فـــــوق رأســـي بـــــــحــــــــر.. بقلم ضياء البوسالمي

نشر في  27 جوان 2018  (11:52)

بقلم: ضياء البوسالمي

تتلاطم أمواجه الهائجة وكأنّها وحوش كاسرة تقع ضحية للرصاص الغادر الذي يأتي من بنادق الصيد.. أغمض عينيّ وأحاول الصعود إلى الماء الذي تخترق رائحة ملحه رأسي لتستقر في أنفي جامدة، ثقيلة، متخثّرة وجاثية.. وحدي على أدراج البرزخ البحريّ الموحش أجمع ما تبقى من حُطام تلك السّفن الملقاة كلعبِ أطفال على حافة الشاطئ.. ذلك الريح الذي يتجمّع كتلاً عجيبة لم أر مثلها من قبل.. يشتدّ ويتكاثر عندما يلامس وجهي كأنه يتثبّت من كمية الملح العالقة بأنفاسي.. الريح في البحر الذي استقر فوق رأسي تسيّره قوّة لامرئية تخاطبه من وراء حجاب فيعبث بالزّبد الذي يتحلّل وسط التيار الجارف وأخرج.. أنا.. أنا بكامل جسدي العاري وأعيد تجربة الخلق من جديد كجنين قطع للتوّ حبل الوصل مع أمّه..
 صفعاتُ البحرِ تأديب لصمتِ الصّخرِ 
السّحب شهود زور على تلك المحاكمة العادلة
طيور النورس الجريحة تنزف ملحاً 
تحدّق في المشهد من بعيد 
وتعود أدراجها مختفية خلف أوهام البشر 
أنا..
هنا..
في هذا الجوّ الجنائزيّ أترقّب 
أقف على قدم يحملها الهواء 
وأضع الأخرى في قلب الرمل..
الطريق ضيّق والبحر يحاصر جُبْنَنَا 
تخلّصْ من عظامكَ على الفور وتشبّثْ بهيكلِي العظميّ 
توسّدْ نبضاتِ قلبِي 
ولننتظر هنا..
في هذا المكان الهامشيّ 
صرخة جسد 
أو إطلالة من الربِّ عن طريق الخطأ..
سنسكب أعيننا في عين واحدة 
لنتوجه بعين صامدة أمام وهج الربوبية الساطع الغوص أو الغطس.. وجهان لعملة واحدة.. أمام هذا البحر الذي يرفض أن يغادر مكانه من فوق رأسي أغوص في أعماق ذهني لأنتزعه من ذاكرتي.. على المرء أن يكون مستعدا في كل لحظة لممارسة طقوس الغطس.. عليه أن يتعلم اقتحام ذاته وتحطيم أبوابها الموصدة.. على المرء أن يترك ذاته ممرا خصبا تدوسه السيقان بلامبالاة تامة.. الشيء الجوهري، على ما أعتقد منذ آشور وبابل، هو سبر أغوار قلاع النفس.. هنا وأنا سجين هذا المكان محدّقاً في العدم وحاملاً هذا البحر على رأسي، أُحِسُّ بقيمة الفَقْدِ.. فقدان تلك القدرة على الغطس..
سنضغطُ على الوقت
سنطويه كما تفعل الجدّة مع ملابس الصيف 
حتى يخر ساجدا تحت أرجلنا
وسنهدده بالرّدم 
ان لم يرسل رسولا إلى ضفة النجاة المخلّصة 

خلف الموج ضحكة باهتة.. على حافّة هذا المكان هاوية تدعونا لنطلّ وتغرينا بالذهاب الى أعماقنا.. نسرح لثواني ثمّ نستفيق على صفعات الموج التي تتالى.. ما الذي يمكن ان نجده خلف ذلك البحر؟ كيف نحدّد خياراتنا ونقرّر أيّ الطرق هي الأنسب؟ أتُراها الهاوية؟ أم ذلك الطريق الذي يمتدّ كل ثانية في عرض البحر؟ لا.. لم أحسم امري بعد، والبحر مازال فوق رأسي وشظايا الأفكار عالقة هنا، أحاولعبثا، تجميعها بعد الانفجار المدوي الذي نال من كلّ تفاصيلي وحوّلها الى ركام يصعب تجميعه.. أتردّد في الغطس.. على الرمل أرسم غزلانا ممشوقة القدّ.. أبعث فيها حياةً فترقص فرحا بالمنظر الأخاّذ.. أغبطها، فهي ككلّ الحيوانات الهادئة.. تغرق في بحر الطمأنينة، تتطلّع الى الأفق وتسعد بالهدوء وأشعّة الشمس.. لا ترى ما وراء اللّوحة.. وحده الانسان تجرّأ على هذه الفعلة.. الحيوان أبى والانسان تجرّأ فجرفه تيار العدم وظلّ قابعاً في مستنقع اليأس المظلم تقيّده الأوهام وتُضعفُ حركته..
لا قرابين في هذا المكان
أكفّنا تنزف دماً 
وبرك من الدماء تتشكّل حولنا..
ينقسم المشهد 
ويختلط الليل والنهار
البحر بلون أعيننا 
والقمر سرَقَ حمرة الفجر 
تخفّفنا من أعباء أحلامنا
وصعدنا الى قمم طفولتنا 
من هناك..
نطلّ على أنفسنا
وعلى التحوّلات التي طرأت على أجسادنا 
متنا آلاف المرات في طفولتنا 
في لهونا كنا نمرح بالتظاهر بالموت
عراة، نواجه العالم باللّعب
ونحلم في القيلولة ببطل يحمينا
يحملنا الى سماء عالية وملوّنة
أتأمّل هذه الأبواب التي تظهر من بعيد وتقترب رويدا.. أفرك عينيّ وأمني نفسي بخبر قد يغيّر الواقع وينهي الكابوس.. هنا، يُفْتَحُ أحدها وأرى فيلما لذكرياتي المتعبة والآخر يعرض حادثة أجهدت نفسي لنسيانها.. بقي هذا الثّقب الأسود المغري.. تنبعث منه رائحة الأزهار وترانيم مقابر موحشة.. في هذا المكان، أقابل الموت الذي يشعّ نشاطاً.. ألقى للتوّ حمولته.. ملايين من البشر الذين رحلوا لكن ذكراهم ظلّت عالقة على هذا الشاطئ..
أمام هذا الجبل من الأرواح المتراكمة.. أجلس واجماً أحاول فهم سرّ ذلك البحر الذي علق فوق رأسي..

• (نصّ من مجموعة شعرية بعنوان «أقف وحيدا أمام الجدار» تصدر في أواخر شهر ماي عن دار مومنت للنشر بلندن.)